في أمسية طغي عليها دفء جميل ينظمّها الشعر أنجما راقصة فوق فوانيس الكلمات، كانوا هناك في رابطة الأدباء يحتفون بمساعد ذاك الشاب المبدع الذي نسج أشعاره من خيوط روحه العالقة بين ملامح البشر وتقاسيم الحياة، لم تكن أمسيته الشعرية الأولى ولكن هذه المرة كان قمرا أوحدا في سماء هذه الأمسية، كان مساعد ينساب في عزف شعري جميل، تزدان أرجاء المكان بلمسات شبابية وتتناثر الورود في زوايا القاعة كنثرها في حقول ربيعية مشمسة، وتزدحم المقاعد بالحاضرين كازدحام شوارع الكويت ساعة الظهيرة، بينما كانت تجلس على أحد المقاعد تستمع إليه بشغف، هي هيفاء الأديبة التي لا تخلو من رسمها الصحف والمجلات وتطير كلماتها كسرب مهاجر بلغات عدة إلى سائر البلدان كأديبة مرموقة، هم معتادين على هذا الجو الأدبي المغمّس بالألفة، تلبسهم لقاءات تشوبها دفء العائلة الواحدة
*******
صفق الحضور منتشيا، شكر مساعد الحضور وابتسم ابتسامة خجول تهزج من خلف ستارها ضحكات راقصة فرحا بتألقه، نزل من المنصة فلبس الحضور إسورة ذهبية تزينها نادين بطلتها، وفلـّت الإسورة بعد لحظات بينما مكثت هيفاء وحيدة تحادث مساعد وتنثر إطراءها على ديوانه الشعري الجديد وتناقشه بتفاصيله، لتنزلق بجانبه نادين تلقي التحية بنعومة، عرّف مساعد هيفاء على نادين فهي زوجته وأم أبنائه، تأرجحت عينا هيفاء واعترتها المفاجأة، أليس هذا هو اسم الفتاة التي اخترق سهمها قلب ابنها أحمد يوما وأرادها زوجة له؟!
*****
لمعت عينا هيفاء وابتسمت بهدوء مرحبة، بينما رفرفت روح نادين بلهفة عصفور مزق ريشه الحنين، كان ثالثهما الصمت لبرهة فالجمع الغفير من ضيوف وصحفيين هتف لمساعد من كل صوب، قطعت نادين حبل الصمت وانتزعت طرف الحديث بعجالة، فهي وهيفاء لم يلتقيا يوما ولكن كلا منهما يعرف الآخر جيدا، كانت نادين تسمع عن هيفاء دوما من زوجها مساعد فهي أديبة معروفة وسيدة اجتماعية وصديقة للجميع في الرابطة، وكان كلما يطوف صوب أذنيها اسم هيفاء تتذكر ابنها أحمد فيجلجل قلبها لهفة وحنينا لأيام هاجرت هجرة أبدية، لأيام ركبت في أذيالها سفينة الرحيل مرغمة لتمضي في رحلة أبدية عن مرسى أحمد و شواطيه، والتي ما عادت لها بعد أن استوطنتها امرأة عربية مبحرة في خضم ليلة أوروبية لصيف وحشي نزع كل الفوانيس والشموع من قلب نادين، تذكرت نادين تلك السنة حين عاد أحمد من السفر ولم يعود، كم حاولت وجاهدت للعودة لشطآنه، تذكرت الحرب الضروس وقرع الطبول وأكفان الورود، والتي ما نجحت كلها في استعادة حلمها الموءود برعونة رجل ومخالب امرأة، هزت نادين رأسها ونفضت ذكرياتها لتسأل هيفاء عن أحمد وأحواله، أجابتها هيفاء بهدوء وروية وبادرتها بسؤالها عن أحوالها مع مساعد، أطرقت نادين برأسها أرضا وابتسمت ابتسامة رضا، وأمست عينيها ديمتين عابرتين يصب هطلهما في عيني أم أحمد وحضنت كف أم أحمد بين كفيها وأردفت بخفوت:"حسافة... كنتِ راح تكونين خالتي أم زوجي وكنت راح أكون أم أحفادك" أطبقت نادين شفتاها وظل الكلام بأعماقها عاصفا و... سقط المطر
*******
نظرت لها هيفاء بعين أم وسردت لها مسرعة حكاية أحمد وزواجه الذي لم تهزج له زوايا البيت، وما صدحت به أبدا زغاريد الفرح، وأخذت أم أحمد تذكّر نادين بمحاسن زوجها مساعد، فهو رجل بشخصه وفكره، مبدعا بقلبه وقلمه، ويبدو أبا محبا وزوجا حنونا يحمل بين جنبات شخصه مستقبلا واعدا، سكتت أم أحمد وتمتمت في أعماقها:"قد يبدو ابني أفضل من زوجك بكثير، ولكنه لازال طفلا عابثا وبُعدك خيرة، لا تريدينه يا ابنتي..لا تريدينه" صمتت أم أحمد في أعماقها، ابتسمت نادين ابتسامة يغلفها الحنين، وسرعان ما اختفت هيفاء بين الزحام بعد أن سلمت على زوجة مساعد وأم أبنائه، طفقت نادين تهمس لروحها:"حياتي مع مساعد تعمّها السكينة، لا تشوبها المشاكل ولا يمزّقها الألم، مساعد هو عمود بيتي ومظلتي التي تقيني من المطر... أي مطر؟" تتساءل نادين ولا تجد الإجابة، يناديها قلبها ويلقي عليها التحية في شجن، فها هو هناك لازال يربض مغرداً على كف أم أحمد يستلذ بدفء لم يحسّه منذ سنين، راقصا كعصفور بلله المطر هاتفا لنادين: "حياتك تعمّها السكينة ولا يمزّقها الألم ولكنها قارسة، الألم توأم الحب يا نادين... الألم توأم الحب
*********