--------------------------------------------------------------------------------
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده .. والصلاة على من لا نبي بعده .. وعلى آله وصحبه .. وسلم تسليما كثيرا .. وبعد
بعد أن انقضت صلاة العصر .. وهممت بالخروج من المسجد .. إذا بشيخ طاعن في السن ينادي علي .. ويقبل نحوي في تلهف .. وكأنه يريد أن يقول شيئا ..
وهذا الرجل المبارك كلما رأيته استحييت من نفسي .. وأزريت عليها .. فإنه مع كبر سنه .. وكثرة الأمراض المزمنة عنده .. وتردده على المستشفى من حين لآخر .. إلا أن عينك لا تكاد تخطيء وجهه المنير مع الجماعة ..
لذلك فإن إقباله الغريب عليّ بعد الصلاة .. وقدماه لا تكادان تحملانه .. أثار في نفسي شعورا غريبا .. وما إن سلمت عليه حتى فاضت دموعه على خديه .. وأجهش بالبكاء .. وأخذ ينتحب في المسجد ..
أجلسته على كرسي وأخذت أهدئ من روعه .. فإذا به يقول : ( أردتك أن تشاركني مشاعر الحزن بوفاة محصل الفواتير الذي التقيتـَه منذ فترة .. فقد أتى ليحصل فاتورة الغاز مني .. فلم يرعني إلا صوته أن أدرِكني بالماء .. فإذا بوجه شاحب .. ويدٍ قد أوقفها الشلل الجزئي عن الحركة ).. وكنت بالفعل قد التقيت بهذا الرجل – عليه رحمة الله - .. وكان طيبا دمث الخلق .. وقد جاءني حتى المنزل ليحصل فاتورة رجل آخر لم يكن موجودا حينها .. بالرغم من أنه ليس ملزما بذلك .. لكن تواضعا منه رحمه الله ..
أردف الشيخ الكبير قائلا : ( فلما جئت له بالماء ليشرب .. إذا به يهوي على عتبات السلم مكفيا على وجهه للأسفل .. ففتحت رأسه وسالت دما ) ..
وهنا ازداد بكاء الرجل ونحيبه .. وظننت أنه يبكي تأثرا لموت الرجل على هذه الخاتمة المحزنة .. أن سقط على وجهه للأسفل .. لكنه أردف قائلا : ( ظننت أنه مات لكنه لم يمت .. فطلبت له سيارة الإسعاف .. التي وصلت على الفور .. وأخذته إلى المستشفى .. وهو فيها منذ يومين .. لكنني علمت أن أجله قد وافاه اليوم في المستشفى )..
كل هذا والرجل الطيب لا يتمالك نفسه من البكاء .. حتى أبكاني .. ثم فاجأني بقوله : ( لقد وقع نفس الوقعة التي وقعتها ابنتي .. على نفس الدرج .. وبنفس الهيئة .. وحملته سيارة الاسعاف كما حملتها .. وذهبت به إلى المستشفى كما ذهبت بها .. ولم يخرج منها إلا إلى قبره .. كما لم تخرج هي إلا إلى قبرها )..
حينها أدركت حقيقة تأثره .. وأن هذا المشهد المؤلم لامس لديه وترا حساسا .. وصادف كالسهم قلب الأب الحاني على ابنته .. المشفق عليها .. وعلمت أن موت ابنته التي فُجع بها منذ سنتين .. ما زال كالجرح الغائر الذي يدمي قلبه .. ولا يكاد يندمل حتى تأتي مثل هذه المشاهد .. فيثغب دما من جديد .. ولا أكاد أجالسه مرة حتى يذكرها في كلامه .. ويثني عليها خيرا .. وأنها كانت الوحيدة التي تهتم به .. وتباشر شؤونه في كبره .. وأنها كانت وكانت .. لدرجة أنه ذات يوم قال لي : (مضى على موتها ثلاثمئة وأربع وأربعون يوما).. يعد الأيام والليالي منذ أن فارقها !!..
وذكرني هذا الموقف بأستاذ لي .. ماتت زوجته التي خلقها الله له من نفسه .. كما قال سبحانه :- " خلق لكم من أنفسكم أزواجا ".. الآية . فكانت فجيعته بها أيما فجيعه .. وتأثره لفقدها أبلغ تأثر وأشده .. حتى أنه لا يرى للحياة طعما ولا لونا بدونها .. والعام يمر عليه طويلا .. والأيام كئيبة مملة .. فقد تركت وراءها فراغا لا يستطيع سده .. ولا يعذره إلا من يدرك فوات جزء من الروح .. كيف لا ؟!.. والله امتن على الرجل بأن زوجته خلقت من نفسه .. له لا لغيره .. كما في نص الآية .. فهي قطعة منه .. وكثيرا ما يثني عليها .. وأنها كانت تفكر فى راحة الأخرين ولو على حساب راحتها .. وكانت مثالا للعطاء بلا حدود .. ولا أعجبُ أنه أنشأ على الإنترنت مدونة لها .. يخلد فيها ذكراها ..
إن هذه المشاهد وأمثالها تتحدث عن أمور .. لكن الرابط المشترك بينها أن الدنيا تنقضي .. ويموت أهلها .. وأنه ليس للمرء شيء يتركه خير من ذكر طيب .. وثناء حسن جميل .. فيدعو له من يتذكره ويثني عليه ..